بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رقيق القلب رحيم النفس، يعطف على الصغير ويجل الكبير، ويعرف لكل ذي حق حقه، ومما يدل على ذلك مواقفه التي سطرها الدهر وحفظتها لنا كتب التاريخ والسيرة، تلك المواقف التي تبين عظمة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وأن الله تعالى قد رباه فأحسن تربيته.
إنه النبي الرحيم الكريم، ذو الخلق العظيم، اصطفاه ربه ليكون خاتماً للمرسلين، وإماماً للمتقين، وقدوة للناس أجمعين، تمر به المواقف اليومية فيتفاعل معها ويتأثر بها، ويكون له معها شأناً خاصاً، وربما بكى رحمة بالناس عند موتهم، أو خوفاً من عقاب الله تعالى لأمته، أو عند تلاوة كتاب ربه تعالى. لقد بكى وأبكى، وأثر بتلك المواقف في قلوب من رآه عليه السلام، فكانت مواقفه دروساً عملية لأصحابه ومن بعدهم.
إنك حين تطالع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- تجد رجلاً مهيباً عجيباً لم تعرف البشر مثله قبله ولن تعرف مثله بعده، لقد كان رحيماً حتى مع أعدائه، حريصاً على هداية قومه، خائفاً على أمته من عقوبة الله تعالى والتغير بعد موته.. يبكي إذا رأى موقفاً محزناً أو مؤثراً، صلوات ربي وسلامه عليه.
ومما يدل على ذلك ما سنورده من وقائع وحوادث أظهرت رقة قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وبكائه..
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: (قد قضى؟) قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى القوم بكاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكوا فقال: (ألا تسمعون! إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا) وأشار إلى لسانه (أو يرحم، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).1
وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: كان ابن لبعض بنات النبي -صلى الله عليه وسلم- يقضي (أي يحتضر) فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب) فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقمت معه ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت فلما دخلنا ناولوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبي ونفسه تقلقل في صدره حسبته قال: كأنها شَنَّة، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).2
وانظر أيها الأخ الكريم إلى هذا الموقف الرهيب من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولياليه الذي تحكيه عائشة -رضي الله عنها- لبعض التابعين:
عن عطاء بن يسار قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: زر غِبّاً تزدد حُباً، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فسكتت ثم قالت:
لما كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي) قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك.
قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي.
قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره.
قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته.
قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} (190) سورة آل عمران، الآية كلها.3
وعن أنس رضي الله عنه قال: شهدنا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس على القبر فرأيت عيناه تدمعان فقال: (هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة). فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فأنزل في قبرها) . فنزل في قبرها فقبرها. قال ابن مبارك: قال فليح: أراه يعني الذنب.4 أي لم يقارف ذنباً.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).5
وعن البراء -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة. فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا).6
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله -عز وجل- في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (36) سورة إبراهيم. وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة . فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي) وبكى، فقال الله عز وجل: (يا جبريل اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟) فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قال وهو أعلم، فقال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك).7
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: (اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (9) سورة الأنفال ، فلما كان يومئذ والتقوا فهزم الله عز وجل المشركين فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا، فاستشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعليا وعمر رضي الله عنهم فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما ترى يا ابن الخطاب) قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ولكني أرى أن تمكنني من فلان -قريباً لعمر- فأضرب عنقه وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر رضي الله عنه، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء فلما أن كان من الغد قال عمر رضي الله عنه: غدوت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو قاعد وأبو بكر رضي الله عنه وإذا هما يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك! فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة) لشجرة قريبة، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال، إلى قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} (68) سورة الأنفال، من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم..8
وعن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. يعني يبكي.9
وعن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح.10 .
فهذه نبذ من حياة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام التي تبينت فيها رأفته ورحمته، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه والتابعين.
1 رواه البخاري
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه ابن حبان (2/386)، وصححه الألباني وغيره.
4 رواه البخاري.
5 رواه مسلم.
6 رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
7 رواه مسلم.
8 رواه مسلم وأحمد واللفظ له.
9 رواه النسائي وصححه الألباني.
10 رواه أحمد وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
المصدر
http://www.starsous1.tk